الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
الطويل رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسم *** بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق على أن أكثر ما تستعمل عوض مع القسم، أي: تكون من متعلقات جواب القسم، فعوض متعلق بنتفرق، أي: لا نتفرق أبداً. فإن قلت: لا النافية مع جواب القسم لها الصدر، تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها، فكيف تعلق عوض بما بعد لا الواقع جواباً لتقاسما؟ قلت: أجازه ابن هشام في آخر النوع الثاني عشر من الجهة السادسة من الباب الخامس من المغني: قال: وأما قوله تعالى: {ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} فإن إذا ظرف لأخرج، وإنما جاز تقديم الظرف على لام القسم لتوسعهم في الظروف. ومنه قوله: عوض لا نتفرق ، أي: لا نتفرق أبداً. ولا النافية لها الصدر في جواب القسم. انتهى. وظاهر كلام الشارح هنا جوازه، لكنه شرط - عند الكلام على حروف القسم من حروف الجر - لجواز تقدمه، أن تكون الجملة القسمية، ولأجل إفادة عوضٍ فائدة القسم قد يقدم على عامله قائماً مقام الجملة القسمية، وإن كان عامله مقترناً بحرف يمنع عمله فيما تقدمه، كنون التوكيد، وما. يقال: عوض لآتينك لغرض سده مسد القسم. هذا كلامه. واعترض الدماميني كلام ابن هشام بأنه نص في فصل إذا، على أن التوسع في الظرف بالتقديم في مثل قوله: الرجز ونحن عن فضلك ما استغنينا خاص بالشعر، فكيف ساغ له تخريج الآية على ذلك؟ وقال ابن هشام في الكلام على عوض: قيل إنها ظرف لنتفرق. واستشكله الدماميني هناك بأن لا مانعةٌ من العمل. ثم نقل كلام الشارح المحقق في حروف القسم، وقال: فيمكن أن يكون لا نتفرق جواب قسم محذوف، وعوض سد مسده. لكنه خلاف الظاهر، لأن جملة القسم مذكورة. وأجاز التعليق ابن يعيش في شرح المفصل من غير شرط، قال: أكثر استعمال عوض في القسم، تقول: عوض لا أفارقك، أي: لا أفارقك أبداً، وقوله: عوض لا نتفرق أبداً. انتهى. وكذلك أجازه ابن جني وشارح اللباب وغيره. وهو الصحيح، ويؤيده قول الكرماني في شرح أبيات الموشح: اعلم أنه إذا كان معمول جواب القسم ظرفاً، وجاراً ومجروراً، جاز تقديمه عليه، كقوله: عوض لا نتفرق. وإلا فلا يجوز في: والله لأضربن زيداً، أن يقال: والله زيداً لأضربن. وجعل الشارح المحقق عوض ظرفاً في نحو: البيت هو الصحيح. وزعم بعضهم أن عوض فيه اسم صنمٍ، قسمٌ، وجملة لا نتفرق جوابه. قال ابن هشام في المغني: واختلف في قول الأعشى: رضيعي لبانٍ ثدي أم ***.............. البيت فقيل ظرف لنتفرق. وقال ابن الكلبي: قسم، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل، بدليل قوله: الوافر حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ *** وأنصابٍ تركن لدى السعير والسعير: اسم صنمٍ كان لعنزة. انتهى. ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت. انتهى كلام ابن هشام. ووجهه أن الشاعر حلف بالدماء المائرات، أي: الجاريات على وجه الأرض حول عوض. ومن عادة المشركين كانوا يذبحون ذبائح لأصنامهم، فلولا أن عوضاً صنمٌ لما ذبح له شيءٌ، ولما حلف بالدماء التي حوله تعظيماً له. ويدل أيضاً على كونه صنماً ذكره مع السعير، وهو بالتصغير كما في القاموس وغيره، خلافاً لما يوهمه كلام الصحاح. والبيت قاله رشيد بن رميض، بالتصغير فيهما، العنزي. كذا في العباب للصاغاني. وزاد بعده: أجوب الأرض دهراً إثر عمرٍو *** ولا يلقى بساحته بعيري وقال: البيت مساند. وما نقله ابن هشام عن ابن الكلبي مسطورٌ كذلك في الصحاح في عوض. وقد راجعت كتاب الأصنام لابن الكلبي، وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فلم أر فيه ذكر عوض، ولا ذكر صنماً لبكر بن وائل، مع أنه ذكر أصنام القبائل وسبب عبادتها، وكيف أزالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو كتاب جيد في بابه، جمع فيه فأوعى. وكذا لم أر له ذكراً في كتاب أيمان العرب تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، جمع فيه ألفاظ أيمانهم بأصنامهم وغيرها. وهو أيضاً كتابٌ لعباداتهم جيد في بابه. والمذكور في كتاب الأصنام إنما هو السعير وحده لا مع عوض، قال وكان لعنزة صنم يقال له: سعير، فخرج ابن أبي حلاسٍ الكلبي على ناقته، فمرت به، وقد عترت عنده عنزة فنفرت ناقته منه فأنشد يقول: الكامل نفرت قلوصي من عتائر صرعت *** حول السعير تزوره ابنا يقدم وجموع يذكر مهطعين جنابه *** ما إن يحير إليهم بتكلم قال أبو المنذر: يقدم ويذكر ابنا عنزة. فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السعير. انتهى. وذكر ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب، وفي أبيات الجمل وتبعه اللخمي وغيره كالصاغاني، أن عوضاً كان صنماً لبكر بن وائل. ولم يسنده إلى أحد، وقال: أصله أن يكون ظرفاً، ثم كثر حتى أجروه مجرى ما يقسم به وأحلوه محله. وقال الصاغاني: قال الليث: عوض كلمة تجري مجرى القسم، وبعض الناس يقول: هو الدهر والزمان. يقول الرجل لصاحبه: عوض لا يكون ذاك أبداً. فلو كان عوض اسماً للزمان لجرى بالتنوين، ولكنه حرف يراد به القسم، كما أن أجل ونعم ونحوهما مما لم يتمكن في التصريف حمل على غير الإعراب. انتهى. والقول بأنه حرفٌ لا اسمٌ واهٍ جداً. وقول ابن هشام لم يتجه بناؤه في البيت، يريد أنه فيه مبني على الضم بناء الظروف المقطوعة عن الإضافة. ولو كان اسماً للصنم كما زعم لأعرب كما أعرب في قوله: حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ وكان الواجب حينئذ إما جره بواو القسم، ونصبه بحذفها، بالتنوين فيهما، لأنه عند هذا القائل مقسم به. وجملة: لا نتفرق جوابه، والإعراب منتفٍ، فينتفي كونه اسماً، ويثبت ظرفيته للجواب، والجواب إنما هو لتقاسما. قال ابن جني في إعراب الحماسة: روي قول الأعشى عوض لا نتفرق بالفتح والضم، أي: لا نتفرق أبداً. وذهب الكوفيون إلى أن عوض ها هنا قسم، وأن لا نتفرق إنما هو جوابه. وليس الأمر عندنا كذلك، وإنما قوله لا نتفرق جواب تقاسما، كقول تعالى: {تقاسموا بالله لنبيتنه}. أي: تحالفا على ذلك. انتهى. وكذلك قال العسكري في كتاب التصحيف: إنه ظرف، قال قرأت على أبي بكر بن دريد: الطويل فلم أر عاماً عوض أكثر هالك *** ووجه غلامٍ يسترى وغلامه عوض: اسم معرفة، وهو اسمٌ للدهر، يضم ويفتح. والبصريون يقولونه بالضم. ومثله قول الأعشى: عوض لا نتفرق ... البيت، أي: لا نتفرق الدهر. وبما ذكرنا من وجوب إعرابه يعرف ضعف الوجوه الثلاثة التي قالها ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب، وأبيات الجمل. وتبعه اللخمي، قال: من جعل عوض اسم صنم جاز في إعرابه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: عوض قسمنا الذي نقسم به. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تقدر فيه حرف الجر وتحذفه، كقولك: يمين الله لأفعلن. ويجوز أن يكون في موضع خفضٍ على إضمار حرف القسم. وهو أضعف الوجوه. ومن اعتقد هذا لزمه أن يجعل الباء في قوله بأسحم بمعنى في. انتهى. وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون تقدم أبياتٌ من أولها في الشاهد الرابع بعد المائتين من باب الحال، وتقدم أيضاً بغضها من أولها في الشاهد السابع والثمانين بعد الثلثمائة من باب الضمير. وهذه أبياتٌ مما يليها، وهو أول المديح: لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ *** إلى ضوء نارٍ في يفاعٍ تحرق تشب لمقرورين يصطليانه *** وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسم *** بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه *** كما زان متن الهندواني رونق يداه يدا صدقٍ فكف مبيدةٌ *** وكف إذا ما ضن بالمال تنفق وأما إذا ما المحل سرح مالهم *** ولاح لهم وجه العشيات سملق نفى الذم عن آل المحلق جفنةٌ *** كجابية الشيخ العراقي تفهق ترى القوم فيها شارعين ودونهم *** من القوم ولدانٌ من النسل دردق يروح فتى صدقٍ ويغدو عليهم *** بملء جفانٍ من سديفٍ تدفق وبقي بعد هذا أكثر من ثلاثين بيتاً. روى شارح ديوانه محمد بن حبيب، وصاحب الأغاني، والرياشي وغيرهم: أن الأعشى كان يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الممدوح واسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد، من بني عامر بن صعصعة، مئناثاً مملقاً، فقالت له امرأته: يا أبا كلابٍ، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر فما رأيت أحداً مدحه إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه، وهو رجل مفوه مجدود الشعر، وأنت رجلٌ كما علمت خامل الذكر، ذو بنات، فإن سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة رجوت لك حسن العاقبة. قال: ويحك ما عندنا إلا ناقةٌ نعيش بها. قالت: إن الله يخلفها عليك. قال: لا بد له من شراب. قالت: إن عندي ذخيرةً لي، ولعلي أجمعها، فتلقه قبل أن تسبق إليه. ففعل وخرج إلى الأعشى. فوجد ابنه يقود ناقته، فأخذ زمامها منه، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا؟ قيل: المحلق. قال: شريفٌ كريم. وقال لابنه: خله يقتادها. فاقتادها إلى منزله، فنحر له ناقته، وكشف له عن سنامها وكبدها، ووجد امرأته قد خبزت خبزاً، وأخرجت نحي سمن، وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابةٍ قيسية، قدم إليه الشراب، واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما أخذه الشراب سأله عن حاله وعياله، فعرف البؤس في كلامه، وأحاطت به بناته يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك، وهن ثمان. قال: أما والله لئن بقيت لهن لا أدع شريدتهن قليلة. وخرج، ولم يقل فيه شيئاً. ووافى المحلق عكاظ، فإذا هو بسرحةٍ، قد اجتمع الناس عليها، وإذا الأعشى يقول: لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة إلى آخر القصيدة. فسلم عليه المحلق، فقال: مرحباً بسيد قومه: ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه ببنات هذا الشريف الكريم؟ فما قام من مقعدة حتى خطبت بناته جميعاً. وقوله: لعمري لقد لاحت إلخ، اللام لام ابتداء تفيد التأكيد، وعمري: مبتدأ، وحذف خبره وجوباً، أي: عمري قسمي. ومعنى لاحت: نظرت، وتشوفت إلى هذه النار. حكى الفراء لحت الشيء، إذا أبصرته. وأنشد: المتقارب وأحمر من ضرب دار الملوك *** تلوح على وجهه جعفر كذا في شرح أبيات الجمل لابن السيد. واليفاع، بالفتح: الموضع العالي. وجعل النار في يفاع لأنه أشهر لها، لأنها إذا كانت في اليفاع أصابتها الرياح فاشتعلت. وهذه النار نار الضيافة، كانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة لتكون أشهر، وربما يوقدونها بالمندلي الرطب - وهو عطر ينسب إلى مندل، وهو بلد من بلاد الهند - ونحوه مما يتبخر به ليهتدي إليها العميان. وأشعارهم ناطقة بذلك. ونيران العرب على ما في كتاب الأوائل لإسماعيل الموصلي اثنتا عشرة ناراً: إحداها: هذه، وهي نار القرى، وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وأول من أوقد النار بالمزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة قصي بن كلاب. الثانية: نار الاستمطار، كانت العرب في الجاهلية الأولى إذا احتبس عنهم المطر يجمعون البقر، ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر، ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار. ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر. الثالثة: نار التحالف، كانوا إذا أرادوا الحلف أوقدوا ناراً وعقدوا حلفهم عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد، ويحل العقد. الرابعة: نار الطرد، كانوا يوقدونها خلف من يمضي، ولا يشتهون رجوعه. الخامسة: نار الأهبة للحرب، كانوا إذا أرادوا حرباً، وتوقعوا جيشاً، أوقدوا ناراً على جبلهم ليبلغ الخبر فيأتونهم. السادسة: نار الصيد، وهي نار توقد للظباء لتعشى إذا نظرت إليها. ويطلب بها أيضاً بيض النعام. السابعة: نار الأسد، وهي نارٌ يوقدونها إذا خافوه. وهو إذا رأى النار استهالها، فشغلته عن السابلة. وقال بعضهم: إذا رأى الأسد النار حدث له فكرٌ يصده عن إرادته. والضفدع إذا رأى النار، تحير وترك النقيق. الثامنة: نار السليم، توقد للملدوغ إذا سهر، وللمجروح إذا نزف، وللمضرب بالسياط، ولمن عضه الكلب الكلب، لئلا يناموا فيشتد بهم الأمر، ويؤدي إلى الهلاك. التاسعة: نار الفداء، وذلك أن الملوك إذا سبوا القبيلة خرجت إليهم السادة للفداء. فكرهوا أن يعرضوا النساء نهاراً فيفتضحن، وفي الظلمة يخفى قدر ما يحبسون لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار ليعرضن. العاشرة: نار الوسم. قرب بعض اللصوص إبلاً للبيع، فقيل له: ما نارك؟ وكان أغار عليها من كل وجه. وإنما سئل عن ذلك لأنهم يعرفون ميسم كل قوم، وكرم إبلهم من لؤمها. فقال: الرجز تسألني الباعة أين ناره *** إذا زعزعتها فسمعت أبصارها كل نجار إبلٍ نجاره *** وكل نار العالمين نارها الحادية عشرة: نار الحرتين، كانت في بلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نارٌ تسطع، وفي النهار دخانٌ يرتفع. وربما ندر منها عنق فأحرق من مر بها. فحفر لها خالد بن سنان فدفنها، فكانت معجزةً له. الثانية عشرة: نار السعالي، وهو شيء يقع للمتغرب والمتقفر. قال أبو المضراب عبيد بن أيوب: الطويل ولله در الغول أي رفيقةٍ *** لصاحب دو خائفٍ متقفر أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت *** حوالي نيراناً تبوح وتزهر وأما نار الحباحب فكل نارٍ لا أصل لها، مثل ما ينقدح من نعال الدواب وغيرها. وأما نار اليراعة، فهي طائرٌ صغير، إذا طار بالليل حسبته شهاباً، وضربٌ من الفراش، إذا طار بالليل حسبته شراراً. وأول من أورى نارها: أبو حباحب بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فقالوا: نار أبي حباحب. ومن حديثه ما ذكر عن ابن الكلبي، قال: كان أبو حباحب رجلاً من العرب في سالف الدهر، بخيلاً لا توقد له نارٌ بليلٍ، مخافة أن يقتبس منها، فإن أوقدها، ثم أبصرها مستضيءٌ أطفأها. فضربت العرب به المثل في البخل والخلف، فقالو: أخلف من نار أبي حباحب . وقال ابن الشجري في أماليه: حباحب: رجل كان لا ينتفع بناره، لبخله، فنسب إليه كل نار لا ينتفع بها، فقيل لما تقدحه حوافر الخيل على الصفا: نار الحباحب. قال النابغة في وصف السيوف: الطويل ويوقدون بالصفاح نار الحباحب وجعل الكميت اسمه كنية للضرورة في قوله: الوافر يرى الراؤون بالشفرات منه *** كنار أبي الحباحب والظبينا وقال القطامي: ألا إنما نيران قيسٍ إذا اشتوو *** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب انتهى. وهذا هو التحقيق، لا ما ذكره الموصلي تبعاً للعسكري في أوائله. وزاد الصفدي في شرح لامية العجم: نار الغدر، قال: كانوا إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له ناراً بمنًى أيام الحج، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان وعد نار المزدلفة، التي أول من أوقدها قصي، قسماً مستقلاً. وجعل عدة النيران أربع عشرة ناراً. وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني في نار التحالف: كانوا يحلفون بالنار، وكانت لهم نارٌ، يقال: إنها كانت بأشراف اليمن لها سدنة، فإذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها انقطع بينهم. وكان اسمها: هولة والمهولة. وكان سادنها إذا أتي برجلٍ هيبه من الحلف بها، ولها قيم يطرح فيها الملح والكبريت، فإذا وقع فيها استشاطت وتنقضت فيقول: هذه النار قد تهددتك. فإن كان مريباً نكل، وإن كان بريئاً حلف. قال الكميت: الطويل هم خوفونا بالعمى هوة الردى *** كما شب نار الحالفين المهول وقال الكميت، وذكر امرأة: المتقارب فقد صرت عما لها بالمشي *** ب زولاً لديها هو الأزول كهولة ما أوقد المحلفون *** لدى الحالفين وما زولوا وقال أوس: الطويل إذا استقبلته الشمس صد بوجهه *** كما صد عن نار المهول حالف وقال أيضاً في نار الأهبة: كانوا إذا أرادوا حرباً، وتوقعوا جيشاً وأرادوا الاجتماع، أوقدوا ليلاً على جبل، لتجتمع إليهم عشائرهم، فإذا جدوا وأعجلوا أوقدوا نارين. وقال الفرزدق: الكامل ضربوا الصنائع والملوك وأوقدو *** نارين أشرفتا على النيران انتهى. وقوله: تحرق روي بالبناء للمفعول، وروي بالبناء للمعلوم والمفعول محذوف، أي: الحطب. وقوله: تشب لمقرورين إلخ، أي: توقد. والمقرور: الذي أصابه القر، وهو البرد. والاصطلاء: افتعال من صلي النار وصلي بها، من باب تعب: إذا وجد حرها. والصلاء ككتاب: حر النار. وقوله: وبات على النار إلخ، بات: له معنيان، أشهرهما ما قاله الفراء: بات الرجل: إذا سهر الليل كله في طاعة ومعصية. وهو المراد هنا. والثاني بمعنى صار، يقال: بات بموضع كذا، أي: صار به، سواءٌ كان في ليل ونهار. والندى: الجود والكرم والمحلق: هو الممدوح، واسمه عبد العزى، من بني عامر بن صعصعة كما تقدم. وهو جاهلي. كذا في أنساب ياقوت وغيره. وقال العسكري في التصحيف: المحلق الذي مدحه الأعشى مفتوح اللام، هو اسمه، وهو المحلق بن جزء، من بني عامر بن صعصعة. والمحلق الضبي ولاه الحكم بن أيوب الثقفي سفوان بفتح اللام أيضاً، قال فيه بعض الشعراء: الطويل أبا يوسف لو كنت تعلم طاعتي *** ونصحي إذاً ما بعتني بالمحلق وذكر أحمد بن حباب الحميري، أن في جعفي في مران منهم المخلق بخاء معجمة ولام مكسورة. انتهى. وقد خالف الجمهور في قوله إن المحلق اسمه، وقالوا: أن اسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد، وهو أبو بكر، بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وسمي محلقاً لأن فرسه عضه، فصار موضع عضه كالحلقة، فقيل له المحلق. وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: وسمي المحلق لأن بعيراً عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة. وقيل: بل كوى نفسه بكيةٍ شبه الحلقة. وزاد اللخمي: لأنه كان يأتي موضع الحلاق بمنًى. وحكى الموصلي أنه أصابه داء فاكتوى على حلقه فسمي المحلق. وروى أبو عبيدة: المحلق، بكسر اللام. وروى الأصبهاني بفتحها. وقال بعض فضلاء العجم في شرح. وقال الجوهري: المحلق بكسر اللام: اسم رجل من بني أبي بكر بن كلاب، من بني عامر. انتهى. وكسر اللام خلاف الصحيح. وهذا قول الأمير ابن ماكولا، نقله عن النسابة حسن، ابن أخي اللبن. قال الأمير: وحنتم بحاء مهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم مثناة فوقية. والمحلق كان سيداً في الجاهلية، وهو الذي مدحه الأعشى. وقال الكلبي في جمهرة الأنساب: المحلق هو عبد العزى بن حنتم بن شداد ابن ربيعة المجنون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. كان سيداً وذا بأس في الجاهلية، وله يقول الأعشى: وبات على النار الندى والمحلق وله حديث. وكان الأعشى نزل به فأمرته أمه، فنحر للأعشى ناقة ولم يكن له غيرها. انتهى. قال ابن السيد: لما كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار، جعل الندى والمحلق كمتحالفين اجتمعا على نار. وذكر المقرورين لأن المقرور يعظم النار، ويشعلها لشدة حاجته. وقد أخذ أبو تمام الطائي هذا المعنى وأوضحه، فقال في مدحه الحسن بن وهب: الكامل قد أثقب الحسن بن وهبٍ في الندى *** ناراً جلت إنسان عين المجتلي موسومةً للمهتدي مأدومةً *** للمجتدي مظلومةً للمصطلي ما أنت حين تعد ناراً مثله *** إلا كتالي سورةٍ لم تنزل وقال اللخمي: كان الناس يستحسنون هذا البيت للأعشى، حتى قال الحطيئة: الطويل متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نارٍ عندها خير موقد فسقط بيت الأعشى. انتهى. وهذا مأخوذٌ من الأوائل للعسكري والموصلي. وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى: {وأجد على النار هدًى}، واستشهد به على أن معنى الاستعلاء فيها، أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنه لصوقٌ في مكان يقرب من زيد. ولأن المصطلين بها، إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها. وكذلك أورده ابن هشام في المغني قال: أحد معاني على: الاستعلاء، إما على المجرور وهو الغالب، نحو: عليها وعلى الفلك تحملون وعلى ما يقرب منه نحو: وأجد على النار هدًى ، أي: هادياً، وقوله: وبات على النار الندي والمحلق وأورده في الباء الموحدة أيضاً، وقال: أقول: إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقياً إذا كان مفضياً إلى نفس المجرور، كأمسكت بزيد، وصعدت على السطح. فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازي، كمررت بزيد، في تأويل الجمهور، وكقوله: وبات على النار الندى والمحلق وقوله: رضيعي لبان إلخ، هو مثنى رضيع، قالوا: رضيع الإنسان: مراضعه. قال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام: إذا كانت المفاعلة بين اثنين جاء كل واحدٍ منهما على فعيل كما جاء على مفاعل، كقعيد للذي يقاعدك وتقاعده، ونديم بمعنى منادم، ورضيع وجليس، بمعنى مراضع ومجالس. انتهى. وإليه أشار الجوهري بقوله: وهذا رضيعي كما تقول أكيلي . وكذلك قال صاحب المصباح: راضعته مراضعة، وهو رضيعي. وفي عمدة الحفاظ للسمين: وفلان رضيع فلان، أي: رضيعٌ معه. وأنشد هذا البيت ونسبه للنابغة. وهو سهو. وفعيل هذا لا يعمل النصب. قال الشارح المحقق في أبنية المبالغة: وأما الفعيل بمعنى الفاعل، كالجليس، فليس للمبالغة، فلا يعمل اتفاقاً . فإضافة رضيعي إلى لبان ليس من الإضافة إلى المفعول به المصرح، بل هو مفعولٌ على التوسع بحذف حرف الجر، لأنه يقال: رضيعه بلبان أمه، فحذف الباء، فانتصب لبان، وأضيف إليه الوصف. وثدي بالجر بدل من لبان، وعلى رواية النصب بدل أيضاً بتقدير مضافٍ مجرور فيهما، أي: لبان ثدي، فلما حذف المضاف انتصب. وهو منصوب على نزع الخافض، أي: من ثدي أم. ولا يجوز الإبدال على محل لبان لأن شرطه كالعطف على المحل إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح. لا يجوز مثلاً: مررت بزيد وعمراً، خلافاً لابن جني، لأنه لا يجوز: مررت زيداً. فأما قوله: الوافر تمرون الديار ولم تعوجوا فضرورة. وغفل بعض من شرح درة الغواص عن عدم عمل فعيل المذكور؛ فقال في شرحه: وذي منصوب برضيعي، ولا حاجة لتقدير من، كما قيل، لأن رضيع متعد بنفسه. هذا كلامه، مع أنه قال رضيع لا يكون إلا بمعنى مراضع. ولا مانع عندي أن يكون هنا بمعنى راضع، وتكون المشاركة من التثنية، بل هذا هو الجيد، إذ لو كان رضيع هنا بمعنى مراضع لما ثنى، ولكان المناسب أن يقول: رضيع الندي من ثدي أم تقاسما وعليه يسهل إعراب البيت، فيكون رضيعي مضافاً إلى مفعوله لأنه ماض، واسم الفعل الماضي تجب إضافته إلى ما يجيء بعده مما يكون في المعنى مفعولاً، فيكون ثدي أم، بدلاً من لبان بتقدير مضاف مجرور، والأصل رضيعي لبان لبان ثدي أم، ويكون بدلاً من لبانٍ على المحل، على قول من لا يشترط المحرز الطالب لذلك المحل. وفعيل قد وضع بالاشتراك تارةً لفاعل وتارة لمفاعل، والقرينة تعين، وهي هنا التثنية. وقال الأندلسي في شرح المفصل: رضيع فعيل للمبالغة. وعليه فيكون عاملاً عمل فعله. وقد ذهب ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب، وأبيات الجمل إلى ما ذكرنا، قال: لك أن تجعل الرضيع بمعنى الراضع، كقولهم: قدير بمعنى قادر، فيكون متعدياً إلى مفعول واحد. وإن شئت جعلته بمعنى مرضع، كقولهم: رب عقيدٌ، بمعنى معقد، فيتعدى إلى مفعولين. ومن خفض ثدي أم جعله بدلاً من لبان، ومن نصبه أبدله من موضعه، لأنه في موضع نصب. ولا بد من تقدير مضاف في كلا الوجهين، كأنه قال: لبان ثدي أم. وإنما لزم تقدير مضاف لأنه لا يخلو من أن يكون بدل كل وبدل بعض وبدل اشتمال، فلا يجوز الثاني، لأن الثدي ليس بعض اللبان؛ ولا الثالث، لأن الأول يشتمل على الثاني، وذلك لا يصح ها هنا. وقد ذهب قوم إلى أن الثاني، هو المشتمل على الأول، وذلك غلط، فلم يبق إلا أن يكون بدل كل. والثدي ليس اللبان، فوجب أن يقدر لبان ثدي. ويجوز أن يكون ثدي أم مفعولاً سقط منه حرف الجر، كقولك: اخترت زيداً الرجال. انتهى. وتعقبه اللخمي بأنه قيل: إن اسم الفاعل هنا بمعنى المضي، فلا يعمل عند البصريين، وإن انتصاب ثدي إنما هو على التمييز، لأنه يحسن فيه إدخال من المقدرة في التمييز. ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار فعل دل عليه رضيع، والتقدير: رضعا ثدي أم، كقوله تعالى: {وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا}. وهذا إنما يكون على أن تجعل رضيعي خبراً لبات، لا حالاً. انتهى كلامه. وقال بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل: ثدي بدل من محل لبان، في تقدير: رضيعين لباناً ثدي أم، وهو بدل اشتمال. وقيل: ثدي أم منصوب على إضمار رضعا، بدلالة رضيعي. وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح. وفيه أن الوصف ماضٍ، وأن بدل الاشتمال لا بد له من ضمير. والجيد في نصب رضيعي، أن يكون على المدح. وجوز ابن السيد واللخمي غير هذا: أن يكون حالاً من الندى والمحلق، ويكون قوله: على النار خبر بات. وأن يكون خبر بات، وعلى النار حالاً. وأن يكونا خبرين. أقول: أما الأول ففيه مع ضعف مجيء الحال من المبتدأ المنسوخ فساد المعنى، لأنه يقتضي أن يكونا غير رضيعين في غير بياتهما على النار، وجودة المعنى تقتضي أنهما رضيعان مذ ولدا. وأما الأخيران ففيهما قبح التضمين الذي هو من عيوب الشعر، وهو توقف البيت على الآخر. ويرد هذا أيضاً على جعله حالاً من الندى والمحلق، وعلى جعله بدلاً من مقرورين، وعلى جعله صفة له. حكى هذه الثلاثة بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل. وجوز هذه الثلاثة شارح أبيات الموضح، مع تجويز كونه خبراً لبات. قال: وعلى هذه الأوجه خبر بات، قوله: تقاسما. وهذا تعسف؛ فإن تقاسما جواب مقدر نشأ من قوله: وبات على النار الندى والمحلق، والخبر هو على النار. واللبان بكسر اللام، قال الأندلسي: هو لبن الآدمي. قيل: ولا يقال له لبن إنما اللبن لسائر الحيوانات. وليس بصحيح، لأنه قد جاء في الخبر: اللبن للفحل ، أي: للزوج، نعم اللبان في بني آدم أكثر. انتهى. وكذلك قال ابن السيد: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لبن الفحل محرم كما اتفق عليه الفقهاء. وفسروه بأن الرجل تكون له امرأة ترضع بلبنه، فكل من أرضعته حرمته عليه، وعلى ولده. والصحيح أنه يقال: اللبان للمرأة خاصة، واللبن عام. وقال الحريري في درة الخواص تبعاً لابن قتيبة في أدب الكاتب: يقولون لرضيع الإنسان: قد ارتضع بلبنه، وصوابه ارتضع بلبانه، لأن اللبن المشروب، واللبان مصدر، لابنه، أي: شاركه في شرب اللبن. وهذا هو معنى كلامهم الذي نحوا إليه. وإليه أشار الأعشى في قوله: رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما البيت. انتهى. وقد تقدم الكلام على اللبان في الشاهد الثالث والتسعين بعد الثلثمائة. وقد أخذ معنى هذا المصراع، وبسطه الكميت، في مدح مخلد بن يزيد، وقال: الرجز ترى الندى ومخلداً حليفين *** كانا معاً في مهده رضيعين تنازعا فيه لبان الثديين وفيه لطف بلاغةٍ، لجعلهما أخوين من جنسٍ واحد. وتقاسما: تفاعلا من القسم، أي: أقسم كل منهما لا يفارق أحدهما الآخر. وروى بدله: تحالفا من الحلف وهو اليمين. والباء في قوله: بأسحم ، داخلةٌ على المقسم به، وقد اختلف في معناه: قال ابن السيد: فيه سبعة أقوال: أحدها: هو الرماد، وكانوا يحلفون. قال الشاعر: المنسرح حلفت بالملح والرماد وبالن *** اس وبالله نسلم الحلقه حتى يظل الجواد منعفر *** وتخضب النبل غرة الدرقه ثانيها: هو الليل. ثالثها: هو الرحم. رابعها: هو الدم، لأنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا. حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب، وحكى غيره، وهو الخامس أنه حلمة الثدي. وقيل، وهو السادس: زق الخمر. وقيل، وهو السابع: دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام. وجعله أسحم لأن الدم إذا يبس اسود. وأبعد هذه الأقوال قول من قال: إنه الرماد، لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داجٍ، وإنما يوصف بأنه أورق. انتهى. وقال أحمد بن فارس: الأسحم: الأسود. والأسحم في قول الأعشى: بأسحم داج هو الليل، وفي قول النابغة: الطويل بأسحم دانٍ هو السحاب، وقول زهير: الطويل بأسحم مذود هو القرن. ويقال: بأسحم داجٍ، أي: في الرحم. انتهى. وقال الحريري في الدرة: عنى بالأسحم الداجي: ظلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث}. وقيل: بل عنى به الليل. وعلى كلا هذين التفسيرين فمعنى تقاسما فيهما، أي: تحالفا. وقد قيل إن المراد بلفظة تقاسما اقتسما، وإن المراد بالأسحم الداجي الدم، وقيل: المراد بالأسحم اللبن لاعتراض السمرة فيه، وبالداجي الدائم. انتهى. ولا وجه لتفسير تقاسما، باقتسما، على تفسير الأسحم بأحد المعنيين الأخيرين. وكيف يصح تفسير الداجي بالدائم، مع أنه من الدجية، وهو الظلام. وقال الجوهري: قيل: هو الدم، وقيل: الرحم، وقيل: سواد حلمة الثدي، وقيل: زق الخمر. وقوله: عوض هو ظرفٌ مقطوع عن الإضافة متعلق بما بعده. وجملة: لا نتفرق جواب القسم، وجاء به على حكاية لفظ المتحالفين الذي نطقا به عند التحالف، ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما، لقال: لا يفترقان. وزعم ابن السيد، وتبعه اللخمي، أنه يجوز مع كون عوض ظرفاً، أن يكون عوض مقسماً به، والباء في أسحم بمعنى في. وهذا فاسد، لأنه كان يجب حينئذ إعرابه، وجره بحرف القسم. قال الأندلسي: لا يجوز أن يكون عوض اسم صنم، لتقدم المقسم به قبله، ولبنائه، وأيضاً لا يجوز حذف حرف القسم عند ذكر الفعل. وعليه اقتصر الخوارزمي، نقله عنه ابن المستوفي، قال: عنى بأسحم داج: الليل، وهو ليس بالمقسم به، إنما هو ظرف بمنزلة أن تقول: تقاسما في ليلٍ داج يكون تآلفهما فيه، واستئناس كل منهما بصاحبه أكثر. وقال صاحب العين: عوض كلمة تجري مجرى القسم، فعوض على هذا القول معناه حلفا بالدهر لا نتفرق، فحذف حرف القسم ونصب المقسم به، كما في قولك: الله لأفعلن. هذا كلامه. وفيه أن حرف القسم، لا يحذف مع ذكر الفعل. وقال ابن السيد: ومن اعتقد أن عوض اسم صنم، لزمه أن يجعل الباء في قوله: بأسحم، بمعنى في. ويعني بالأسحم الليل، والرحم. ولا يجوز أن تكون الباء في هذا الوجه للقسم، لأن القسم لم يقع بالأسحم، إنما وقع بعوض، الذي هو الصنم. انتهى. ويعرف وجه رده مما ذكرنا. وقوله: وأما إذا ما المحل إلخ، المحل: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وسرح مالهم، أي: أطلقها وفرقها. والمال عند العرب: الإبل والبقر والغنم. والسملق، كجعفر: القاع الصفصف. وقوله: نفى الذم إلخ، هو جواب إذا. والجفنة، بالفتح: قصعة الطعام فاعل نفى. والجابية بالجيم، قال الجوهري: هي الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. وأنشد البيت. وتفهق، قال المبرد في أول الكامل: من قولهم: فهق الغدير يفهق، إذا امتلأ ماء، فلم يكن فيه موضع مزيد. قال الأعشى: نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ***.............. البيت هكذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته، لأنه حضري، فلا يعرف مواضع الماء ولا محاله. وسمعت أعرابية تنشد: كجابية السيح بإهمال الطرفين، تريد النهر الذي يجري على جابيته، فماؤها لا ينقطع، لأن النهر يمده. انتهى. وقال ابن السيد في حاشيته على الكامل: كان الأحمر، يقول: الشيخ تصحيف، وإنما هو السيح بالسين والحاء غير معجمتين، وهو الماء الجاري على وجه الأرض يذهب ويجيء. والجابية: الحوض، وجمعه الجوابي. وكل ما يحبس فيه الماء فهو جابية. وقيل: أراد بالشيخ العراقي كسرى. وحكاه أبو عبيد في كلامٍ ذكره عن الأصمعي في شرح الحديث. وحض بالشيخ على تأويل المبرد، لأنه جرب الأمور، وقاسى الخير والشر، وهو يأخذ بالحزم في أحواله. انتهى. ودردق بدالين بينهما راء: الأطفال، يقال: ولدانٌ دردق، ودرادق. كذا في العباب. والسديف: شحم السنام. وتدفق أصله تتدفق بتاءين. والأعشى شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب. وقد روى صاحب الأغاني سبب هذه القصيدة على غير ما ذكرناه أيضاً. وقد روى عن النوفلي أن المحلق كانت له أخواتٌ ثلاث، لم يرغب أحدٌ فيهن لفقرهن وخموله. والتزويج إنما كان لهن لا لبناته. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: الرجز لقد رأيت عجباً مذ أمسا على أن أمس غير منصرف، مجرور بالفتحة، والألف للإطلاق. وهذا نص سيبويه في باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت أعلاماً خاصة، أوردته بطوله لكثرة فوائده: وسألته رحمه الله، يعني الخليل، عن أمس اسم رجل، فقال: مصروف، لأن أمس ها هنا ليس على الجر ولكنه لما كثر في كلامهم، وكان من الظروف، تركوه على حالٍ واحدة، كما فعلوا ذلك: بأين وكسروه، كما كسروا غاق، إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب، كما أن حركة غاق لغير إعراب. فإذا صار اسماً لرجل انصرف، لأنه قد نقلته إلى غير ذلك الموضع، كما أنك إذا سميت بغاق صرفته. فهذا يجري مجرى هذا، كما جرى ذا مجرى لا. واعلم أن بني تميم يقولون في موضع الرفع: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، فلا يصرفون في الرفع، لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام، لا عما ينبغي له أن يكون عليه في القياس. ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل موضع، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في الجر والنصب. فلما عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه، تركوا صرفه، كما تركوا صرف أخر حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها، وكما تركوا صرف سحر ظرفاً. لأنه إذا كان مجرور ومرفوع ومنصوباً غير ظرف لم يكن بمنزلته إلا وفيه الألف واللام؛ ويكون نكرةً إذا أخرجتا منه. فلما صار معرفة في الظروف بغير ألف ولام، خالف التعريف في هذه المواضع، وصار معدولاً عندهم كما عدلت أخر، فترك صرفه في هذا الموضع، كما ترك صرف أمس في الرفع. وإن سميت رجلاً بأمس في هذا القول صرفته، لأنه لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب، لأنه في الجر والنصب مكسورٌ في لغتهم، فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرفع، لأنك تدخله في الرفع وقد جرى له الصرف في القياس في الجر والنصب، لأنك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفاً للقياس. ولا يكون أبداً في الكلام اسمٌ منصرفٌ في الجر والنصب ولا ينصرف في الرفع. وكذلك سحر اسم رجل تصرفه، وهو في الرجل أقوى لا يقع ظرفاً، ولو وقع اسم شيءٍ، فكان ظرفاً، صرفته، وكان كأمس لو كان أمس منصوباً غير ظرف مكسور كما كان. وقد فتح قومٌ أمس في مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع، شبهوها بها. قال: الرجز لقد رأيت عجباً مذ أمس *** عجائزاً مثل الأفاعي خمسا وهذا قليل. انتهى كلام سيبويه، ونقلته من نسخة معتمدة مقروءة على مشايخ جلة، عليها خطوط إجازاتهم، منهم زيد بن الحسن بن زيد الكندي إمام عصره عربيةً وحديثاً، وتاريخ إجازته سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وهي نسخة ابن ولاد تلميذ ثعلب والمبرد، وتوفي بمصر في سنة ثمان وتسعين ومائتين. فما اعترض به الشارح المحقق على الزجاجي، في زعمه أن أمس في البيت مبنية على الفتح، حق لا شبهة فيه. وقد غلطه شراحه، منهم ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل، قال: مذ أمسا جار ومجرور، ومذ هنا حرف جر، وهي بمنزلة في، كأنه قال: لقد رأيت عجباً في أمس، والعامل فيها رأيت، والفتحة فتحة إعراب، وهي علامة الخفض كما تكون فيما لا ينصرف. وقد غلط أبو القاسم فيها وزعم أنها في البيت مبنية على الفتح، وإنما هي في البيت على لغة بعض بني تميم. وليس في العرب من يبنيها على الفتح، وهي مخفوضة بمذ، ولكنها لا تنصرف عندهم للتعريف والعدل. وإنما دخل عليه الوهم من قول سيبويه: وقد فتح قومٌ أمس مع مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع، شبهوها بها. وأنشد البيت على ذلك. فتوهم أنه لما ذكر الفتح الذي هو لقب البناء أنه أراد أن أمس مبني. ولو تأمل لبان له العذر في ذكر الفتح هنا، إذ لا يمكن أن تسمى الحركة التي يحدثها عامل الجر نصباً، لأنها ليست للنصب، إنما هي للجر. وسوى بين عملٍ الجار والناصب دلالة على ضعف الجار فيما لا ينصرف، ولم يسمها جراً استقلالاً لها، لأنها لما ضمت إلى النصب صارت كأنها غير جر البتة. ألا تراه قال: وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام انجر، وهو لم يزل مجروراً، إلا أنه جعل الجر المحمول على النصب غير جر. وإلا فالعوامل في المنصرف وغير المنصرف واحدة. فاعلم ذلك. انتهى كلام اللخمي. وقال النحاس: قال سيبويه: قد فتح قوم أمس في مذ إلخ. هذا من كلام سيبويه مشكلٌ يحتاج إلى الشرح. وشرحه علي بن سليمان، قال: أهل الحجاز على ما حكاه النحويون، يكسرون أمس في الرفع والنصب والخفض، وبنو تميم يرفعونه في موضع الرفع بلا تنوين، يجعلونه بمنزلة ما لا ينصرف. وذلك أنه ليس سبيل الظرف أن يرفع لأن الأخبار ليست عنه، فلما أخبروا عنه زادوه فضلةً فأخرجوه من البناء إلى ما لا ينصرف، فلما اضطر الشاعر أجراه في الخفض مجراه في الرفع، وقدر مذ هذه الخافضة، وفتحه لأنه لا ينصرف. انتهى. وقال الأعلم: الشاهد فيه إعراب أمس ومنعها من الانصراف، لأنها اسمٌ لليوم الماضي قيل يومك معدول عن الألف واللام. ونظير جرها بعد مذ ها هنا رفعها في موضع الرفع، إذا قالوا: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، وهي لغةٌ لبعض بني تميم. فلما رفعت بعد مذ لأن مذ يرتفع ما بعدها إذا كان منقطعاً ماضياً، جاز للشاعر أن يخفضه بعدها على لغة من جر بها في ما مضى وانقطع، لأن مذ هذه الخافضة لأمس هي الرافعة له في لغة من يرفع. وقد بينت هذا وكشفت حقيقته في كتاب النكت. انتهى. وليس في كلام سيبويه ما يدل على أنه ضرورة. فتأمل. وأما ما وهم به الشارح المحقق الزمخشري، فقد يمنع بأن يكون الزمخشري ذهب إلى ما حكاه الكسائي عن بعض بني تميم، بأنهم يمنعون صرف أمس رفعاً ونصباً وجراً. ونقله أبو حيان في الارتشاف. ويؤيده قول أبي زيد في النوادر: قوله مذ أمسا ذهب بها إلى لغة بني تميم، يقولون: ذهب أمس بما فيه فلم يصرفه. وقال الجرمي فيما كتبه على النوادر: جعل مذ من حروف الجر ولم يصرف أمس، فتح آخره في موضع الجر، وهو الوجه في أمس. وأبو زيد من مشايخ سيبويه، وإذا نقل عنه في كتابه، قال: حدثني الثقة . والشارح مسبوق بالتوهيم. قال أبو حيان: اختلف النحاة في إعراب أمس مطلقاً إعراب ما لا ينصرف عند بعض تميم، فذهب إلى إثبات ذلك ابن الباذش، وهو قول ابن عصفور وابن مالك. وقال الأستاذ أبو علي: هذا غلط، وإنما بنو تميم يعربونه في الرفع، ويبنون في النصب والجر. انتهى. والبيتان من رجز في نوادر أبي زيد سمعه من العرب، وأنشد بعدهما: الرجز يأكلن ما في رحلهن همس *** لا ترك الله لهن ضرسا وقال: الهمس: أن تأكل الشيء وأنت تخفيه. وقوله: عجائزاً نونه لضرورة الشعر، قيل بيان بقوله: عجباً، وقيل بدلٌ منه. وهو جمع عجوز. قال ابن السكيت: العجوز: المرأة الكبيرة، ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله. ومثل صفةٌ لعجائز، وكذا قوله: خمساً. والسعالي: جمع سعلاة بالكسر، ويقال أيضاً: سعلاء بالمد والقصر، وهي أنثى الغول، وقيل: ساحرة الجن. وروى أبو زيد وسيبويه: مثل الأفاعي جمع أفعى، وهي حية يقال: هي رقشاء دقيقة العنق عريضة الرأس، لا تزال مستديرةً على نفسها، لا ينفع منها ترياق ولا رقية. يقال: هذه أفعى بالتنوين لأنه اسمٌ وليس بصفة. كذا في المصباح. والرحل: المأوى والمنزل، وروى أيض: يأكلن ما في عكمهن والعكم: العدل بكسر أولهما. وجملة: لا ترك الله إلخ، دعائية. وزاد ابن السيد في أبيات الجمل بعد هذا: ولا لقين الدهر إلا تعسا وقال: التعس: السقوط على القفا. وزاد ابن هشام اللخمي: الرجز فيها عجوزٌ لا تساوي فلس *** لا تأكل الزبدة إلا نهسا والبيت الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها. وقال ابن المستوفي: وجدت هذه الأبيات الثمانية في كتاب نحوٍ قديم، للعجاج أبي رؤبة. واراه بعيداً من نمطه. وقوله: لا تأكل الزبدة إلا نهسا ، أي: لا أسنان لها، فهي تنهسها. وهو إغراقٌ وإفراط. والنهس: أخذ اللحم بمقدم الأسنان. انتهى. وأنشد بعده: البسيط لاه ابن عمك لا أفضلك في حسبٍ *** عني ولا أنت دياني فتخوني على أن أصل لاه ابن عمك: لله ابن عمك، فحذف لام الجر لكثرة الاستعمال، وقدر لام التعريف، فبقي: لاه ابن عمك، فبني لتضمن الحرف. وصريحه أن كسرة الهاء كسرة بناء، وظاهر كلام المفصل أنها كسرة إعراب، قال: وتضمر، أي: باء القسم، كما تضمر اللام في: لاه أبوك؛ فإن المضمر يبقى معناه، وأثره، بخلاف المحذوف فإنه يبقى معناه ولا يبقى أثره. كذا حققه السيد عند قول الكشاف في تفسير: يجعلون أصابعهم؛ لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه. قال ابن يعيش في شرحه: اعلم أنهم يقولون: لاه أبوك، ولاه ابن عمك، يريدون: لله أبوك، ولله ابن عمك. قال الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ***.............. البيت أي: لله ابن عمك، فحذفت لام الجر ولام التعريف، وبقيت اللام الأصلية. هذا رأي سيبويه. وأنكر ذلك المبرد، وكان يزعم أن المحذوف لام التعريف واللام الأصلية، والباقية هي لام الجر، وإنما فتحت لئلا ترجع الألف إلى الياء، مع أن أصل لام الجر، الفتح. وربما قالوا، لهي أبوك، فقلبوا اللام إلى موضع العين وسكنوا؛ لأن العين كانت ساكنة، وهي الألف، وبنوه على الفتح، لأنهم حذفوا منه لام التعريف وتضمن معناها، فبني لذلك كما بني أمس والآن، وفتح آخره تخفيفاً، لما دخله من الحذف والتغيير. انتهى. وقال الأندلسي في شرحه أيضاً عند قوله وتضمر كما تضمر اللام إلخ: هذا هو الوجه الثالث، وهو أن تحذف الحرف لفظاً، وتقدره معنًى، فيبقى عمله، كما تضمر رب. وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: قوله لاه أراد: لله، حذف لام الجر، واللام الأولى من الله. وكان المبرد يرى أنه حذف اللامين من الله وأبقى لام الجر وفتحها. وحجته أن حرف الجر لا يجوز أن يحذف. انتهى. وقال ابن الشجري في أماليه: قوله: لاه ابن عمك ، أصله لله، فحذف لام الجر وأعملها محذوفة، كما في قوله، الله لأفعلن، وأتبعها في الحذف لام التعريف، فبقي لاه بوزن عال. ولا يجوز أن تكون اللام في لاه لام الجر وفتحت لمجاورتها للألف، كما زعم بعض النحويين، لأنهم قالوا: لهي أبوك، بمعنى لله أبوك، ففتحوا اللام ولا مانع لها من الكسر في لهي، لو كانت الجارة، وإنما يفتحون لام الجر مع المضمر في نحو: لك ولنا، وفتحوها في الاستغاثة إذا دخلت على الاسم المستغاث به، لأنه أشبه الضمير من حيث كان منادًى، والمنادى يحل محل الكاف من نحو: أدعوك. فإن قيل: فكيف يتصل الاسم بالاسم في قوله لاه ابن عمك بغير واسطة، وإنما يتصل الاسم بالاسم في نحو: لله زيد ولأخيك ثوب، بواسطة اللام؟ فالجواب: أن اللام أوصلت الاسم بالاسم، وهي مقدرة، كما تجملت الجر، وهي مقدرة. انتهى. فهؤلاء كلهم صرحوا بأن الكسرة إعراب، وأن لاه مجرورة باللام المضمرة. وكأنه، والله أعلم، اختصر كلامه من أمالي ابن الشجري فوقع فيما وقع. وهذه عبارة ابن الشجري: أقول: إن الاسم الذي هو لاه على هذا القول تام، وهو أن يكون أصله: ليه على وزن جبل، فصارت ياؤه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. ومن قال: لهي أبوك فهو مقلوب من لاه، فقدمت لامه التي هي الهاء على عينه التي هي الياء، فوزنه فلع. وكان أصله بعد تقديم لامه على عينه: للهي، فحذفوا لام الجر، ثم لام التعريف، وضمنوه معنى لام التعريف فبنوه، كما ضمنوا معناها أمس، فوجب بناؤه، وحركوا الياء لسكون الهاء قبلها، واختاروا لها الفتحة لخفتها. انتهى. وقول الشارح المحقق، كما هو أحد مذهبي سيبويه في الله، وهو أنه من لاه يليه، قال ابن الشجري: أصل هذا الاسم الذي هو الله تعالى مسماه إلاه في أحد قولي سيبويه بوزن فعال، ثم لاه بوزن عال. ولما حذفوا فاءه عوضوا منها لام التعريف، فصادفت وهي ساكنة اللام التي هي عينٌ، وهي متحركة، فأدغمت فيها. إلى أن قال: وهذا قول يونس بن حبيب، وأبي الحسن الأخفش، وعلي بن حمزة الكسائي، ويحيى بن زياد الفراء، وقطرب بن المستنير. وقال بعد وفاقه لهذه الجماعة: وجائز أن يكون أصله لاه، وأصل لاه ليه على وزن جبل، ثم أدخل عليه الألف واللام فقيل الله. واستدل على ذلك بقول العرب: لهي أبوك، يريد لاه أبوك. قال: فتقديره على هذا القول فعل، والوزن وزن باب ودار. وأنشد للأعشى: مخلع البسيط كحلفةٍ من أبي رياحٍ *** يسمعها لاهه الكبار ولذي الإصبع العدواني: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ***.............. البيت انتهى كلام سيبويه. هذا كلامه. وأقول: هذان البيتان ليسا بموجودين في كتاب سيبويه كما نبهنا سابقاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة. وقد تكلم أبو علي الفارسي على قولهم: لهي أبوك في التذكرة القصرية، وفي إيضاح الشعر فلا بأس بنقل كلاميه لمزيد الفائدة والإيضاح: قال في التذكرة: لهي أبوك مقلوب من لاه، على القول الذي لاه فيه فعل، أي: بفتحتين، لا على القول الذي لاه فيه عال محذوفة الفاء، وهي همزة إلاه. ومن إشكال هذه المسألة مخالفة وزنها لوزن ما قلبت منه، لأن الأصل فعل، أي: بفتحتين، ولهي فلع، أي: بسكون اللام. ومن إشكالها أيضاً أن المقلوب منه معرب وهو لاه، والمقلوب مبني على الفتح، وهي لهي. وإنما جعلنا لهي هو المقلوب، لأنه أقل تمكناً، وأكثر تغييراً، بدليل أن اسم الله تعالى معرب متصرف في الخبر والنداء، أي: ليس هو مبنياً؛ ودخول جميع العوامل عليه، ولهي أبوك مبني لا يزول عن هذا الموضع، فهو بهذا أكثر تغييراً وأقل تمكناً. ولا يخرج لاه في كلامهم مع ما ذكرنا من الدليل على أنه الأصل، أنه ليس أصل اشتق منه، إذ كان في كلامهم ما العين فيه ياء كثيرٌ. فأما مخالفة وزن لهي الأصل الذي قلبت منه فقد جاء مثله، قالوا فوقٌ، فعين الفعل منه ساكنة، وقال امرؤ القيس: الهزج ونبلي وفقاها كعراقيب فقلب العين إلى موضع اللام وحرك اللام كما سكن اللام في لهي، وذلك لأن المقلوب بناء مستأنف، فجائز أن يأتي مخالفاً لما قلب منه. يدلك على أنه بناء مستأنف، قولهم: قسي، هو مقلوب من قووس، وهم لا يتكلمون بقووس البتة، فتركهم الكلام بالأصل يدلك على أن المقلوب مبني بناء مستأنفاً، لأنه لو لم يكن مستأنفاً، وكان هو المقلوب منه لكان المقلوب منه، متكلماً به. وإذا ثبت أنه بناء مستأنف لم ينكر أن يأتي على غير وزن المقلوب منه، كما أنه لما أن كانت أبنيته مستأنفة، لم ينكر أن تجيء على وزن الواحد. وأما وجه بنائه، فهو أنه تضمن معنى حرف التعريف كما تضمن أمس ذلك. ألا ترى أنه في معنى: لله أبوك، وليس فيه حرف التعريف. وحرك بالفتح كراهةً للكسر مع الياء. ولا يحكم بأن لاه مبني، وأنت تجد سبيلاً إلى الحكم له بالإعراب. ألا ترى أنه اسم متمكن منصرف، فلا يحكم له بالبناء إلا بدليل، كما لم يحكم للهي إلا بدليل، وهو الفتح. انتهى. وصريح كلامه أخيراً يرد ما زعمه الشارح من بناء لاه. وقال في إيضاح الشعر: تحذف حروف المعاني مع الأسماء على ضروب: أحدها: أن يحذف الحرف ويضمن الاسم معناه، وهذا يوجب بناء الاسم، نحو أين، وخمسة عشر، وأمس في قول الحجازيين ومن بناه، ولهي أبوك. والآخر: أن يعدل الاسم عن اسمٍ فيه حرف، فهذا المعدول لا يجب بناؤه، لأنه لم يتضمن الحرف فيلزم البناء، كما تضمنه الأول، لأن الحرف يراد في ذلك البناء الذي وقع العدل عنه. وإذا كان هناك مراداً لم يتضمن هناك الاسم. ألا ترى أنه محال أن يراد ثم، فيعدل هذا عنه ويتضمن معناه، لأنك إذا ثبت الحرف في موضعين، فلا يكون حينئذ عدلاً. ألا ترى أن العدل إنما هو أن تلفظ ببناءٍ وتريد الآخر، فلا بد من أن يكون البناء المعدول غير المعدول ومخالفاً له. ولا شيء يقع فيه الخلاف بين سحر المعدول والمعدول عنه إلا إرادة لام التعريف في المعدول عنه، وتعري المعدول منه فلو ضمنته معناه لكان بمنزلة إثباته، ولو أثبته لم يكن عدلاً. فإذا كان كذلك لم يجز أن يتضمنه، وإذا لم يتضمنه، لم يجز أن يبنى كما بنى أمس. والضرب الثالث: أن تحذف الحرف في اللفظ، ويكون مراداً فيه. وإنما تحذفه من اللفظ اختصار واستخفافاً. فهذا يجري مجرى الثبات. فمن هذا القسم الحذف في جميع الظروف، حذفت اختصاراً، لأن في ذكرك الأسماء التي هي ظروفٌ دلالةً على إرادتها. ألا ترى أنك إذا قلت: جلست خلفك وقدمت اليوم، علم أن هذا لا يكون شيئاً من أقسام المفعولات إلا الظرف. فلما كان كذلك كان حذفها بمنزلة إثباتها، لقيام الدلالة عليها. فإذا كنيت رددت في التي كانت محذوفة للاختصار، وللدلالة القائمة عليها، لأن الضمير لا يتميز ولا ينفصل كما كان ذلك في المظهر. ألا ترى أن الهاء في كناية الظرف كالهاء في كناية المفعول به. فإذا رددت الحرف الذي كنت حذفته فوصلته به دل على أنه من بين المفعولات ظرف. فقد علمت بردك له في الإضمار أنك لم تضمن الاسم معنى الحرف فتبنيه، وأنه مراد في حال الحذف، لأن في ظهور الاسم دلالةً عليه، فحذفته لذلك. فهذا يشبه قولهم: الله لأفعلن، في أنهم مع حذفهم ذلك يجري عندهم مجرى غير المحذوف، إلا أنه لما حذف في الظرف واستغني عنه وصل الفعل إليه فانتصب. والجار إذا حذفوه على هذا الحد الذي ذكرته لك من أن الدلالة قائمة على حذفه، يجري على ضربين: أحدهما: أن يوصل الفعل كباب الظروف، واخترت الرجال زيداً. والآخر: أن يوصل الفعل، ولكن يكون الحرف كالمثبت في اللفظ، فيجرون به كما يجرون به وهو مثبت، وذلك قولهم: الله، وكما قام لنا من الدلالة على حذفهم له في وبلدٍ، وكما ذهب إليه سيبويه في: المتقارب ونارٍ توقد بالليل نارا وكما ذهب بعض المتقدمين من البصريين في قوله: واختلاف الليل إلى أنه على ذلك. ولو قال قائل في إنشاد من أنشد: الطويل ولا مستنكرٍ أن تعقرا إلى هذا الوجه لكان قياس هذا القول. فأما تركهم الرد في حال الإضمار في نحو: الطويل ويومٍ شهدناه سليماً وعامر *** قليلٍ سوى الطعن النهال نوافله فمنهم من يقول: إنما فعل ذلك لأن الإضمار لا يكون إلا بعد مذكور، فيعلم أنه إضمار ذلك. وهذا إذا اتسعوا فيه فجعلوا نصبه نصب المفعول به لم يلزم أن يكون عليه دلالة، كما كان في حال كونه ظرفاً. فأما قولهم: لهي أبوك، فلا تكون هذه اللام الثانية في الاسم، إلا التي هي فاء الفعل. والدليل على ذلك أنها لا تخلو من أن تكون الجارة، والمعرفة، والتي هي فاء. فلا يجوز أن تكون المعرفة لأن تلك يتضمنها الاسم، وإذا تضمنها الاسم لم تظهر. ألا ترى أن الواو في خمسة عشر لا تثبت، واللام في أمس في قول من بنى لا تظهر. فلما كان الاسم هنا مبنياً أيضاً على الفتح، ولم يكن فيه معنًى يوجب بناءه على تضمنه لمعنى حرف التعريف، وجب أيضاً أن لا يظهر، كما لم يظهر أيضاً، فيما ذكرت لك. فإذا لم يجز ظهور حرف التعريف، لم تخل المحذوفة من أحد أمرين: إما أن تكون الجارة، والتي هي فاء الفعل. فلا يجوز أن تكون الجارة لأنها مفتوحة وتلك مكسورة مع المظهرة، فلا يجوز إذاً أن تكون إياها للفتح. فإن قال قائل: ما تنكر أن تكون الجارة وإنما فتحت لأنها جاورت الألف، والألف يفتح ما قبلها؟ قيل له: الدلالة على أنها في قولهم: لاه أبوك، هي الفاء وليست الجارة، أنها لو كانت الجارة في لاه وفتحت لمجاورة الألف لوجب أن تكسر في لهي ولا تفتح، لزوال المعنى الذي أوجب فتحه، وهو مجاورةالألف. فعلمت أن الفتح لم يكن لمجاورة الألف. فإن قال: ترك في القلب كما كان في غير القلب، فذلك دعوى لا دلالة عليها، ولا يستقيم في القلب ذلك. ألا تراهم قالوا: جاهٌ في قلب وجه، وفقاً في فوق. فإذا كانوا قد خصوه بأبنيةٍ لا تكون في المقلوب عنه، دل على أنه ليس يجب أن يكون كالمقلوب عنه. على أن ادعاء فتح هذه اللام مع أنها الجارة، لا سوغ في اللغة التي هي أشيع وأفشى. ولم تفتح في هذه اللغة الشائعة إلا مع المنادى، وذلك لمضارعته المضمر. فإذا لم يجز ذلك ثبت أنها فاء الفعل، وإذا ثبت ذلك ثبت أن الجارة مضمرة، لا بد من ذلك. ألا ترى أنك إن لم تضمر يتصل الاسم الثاني بالأول، لأنه ليس إياه. فالمعنى إذاً: لله أبوك. ومما يدل على فساد قول من قال إن هذه اللام هي الجارة، أنها إذا كانت إياها كانت في تقدير الانفصال من الاسم، من حيث كان العامل في تقدير الانفصال عن المعمول فيه، فإذا كان كذلك فقد ابتدأ الاسم أوله ساكن. وذلك مما قد رفضوه ولم يستعملوه. ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة إذا كانت أول كلمة من حيث كان تخفيفها تقريباً من الساكن. فإذا رفضوا التقريب من الساكن في الابتداء، فأن يرفضوا فيه الابتداء بالساكن نفسه أولى. ويدل على فساد ذلك أنهم لم يخرموا أول متفاعلن، كما خرموا أول فعولن ومفاعلن ونحو ذلك، مما يتوالى في أوله متحركات لأن متفاعلن يسكن ثانيه للزحاف، فيلزم لو خرموه، كما خرم فعولن الابتداء بالساكن. وعلى هذا قال الخليل: لو لفظت بالدال من قد، والباء من اضرب لقلت: أد، وإب، فاجتلبت همزة الوصل. وقال أبو عثمان: لو أعللت الفاء من عدة وزنة ونحوهما، ولم تحذفها للزمك أن تجتلب همزة الوصل فيها، فتقول: إعدة. ومن زعم أن الهمزة في أنا كان الأصل فيها ألفاً ثم أبدل منها همزة فقد جهل ما ذكرناه من مذاهب العرب ومقاييس النحويين. فأما أمس فقد جوزت العرب فيه ضربين: ضمنها قوم معنى الحرف فبنوها في كل حال، وعدلها آخرون فلم يصرفوه، فهؤلاء جعلوه بمنزلة سحر في باب العدل، وأنهم لم يضمنوه الحرف. فأما أخر والعدل فيه فله موضعٌ آخر يذكر فيه إن شاء الله تعالى. انتهى كلام أبي علي، ولتعلق جميعه بهذا الباب سقناه برمته، ليكون كالتتمة له، وبالله التوفيق. والبيت من قصيدة لذي الإصبع العدواني، وهو شاعر جاهلي، وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثلثمائة. وعدتها في رواية المفضل في المفضليات ثمانية عشر بيتاً، وفي رواية ابن الأنباري في شرحها عن أبي عكرمة، ورواية أبي علي القالي في أماليه، ستة وثلاثون بيتاً. واقتصرنا على رواية المفضل. قالها في ابن عم له كان ينافسه ويعاديه، وهي: البسيط لي ابن عم على ما كان من خلقٍ *** مختلفان فأقليه ويقليني أزرى بنا أننا شالت نعامتن *** فخالني دونه وخلته دوني يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي *** أضربك حتى تقول الهامة اسقوني لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ *** عني ولا أنت دياني فتخزوني ولا تقوت عيالي يوم مسغبةٍ *** ولا بنفسك في العزاء تكفيني إني لعمرك ما بابي بذي غلقٍ *** عن الصديق ولا خيري بممنون ولا لساني على الأدنى بمنطلقٍ *** بالفاحشات ولا فتكي بمأمون عف يؤوسٌ إذا ما خفت من بلدٍ *** هوناً فلست بوقافٍ على الهون عني إليك فما أمي براعيةٍ *** ترعى المخاض وما رأيي بمغبون كل امرئ راجعٌ يماً لشيمته *** وإن تخالق أخلاقاً إلى حين إني أبي أبي ذو محافظةٍ *** وابن أبي أبي من أبيين وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ *** فاجمعوا أمركم كلا فكيدوني فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقو *** وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني ماذا علي وإن كنتم ذوي كرمٍ *** أن لا أحبكم إن لم تحبوني لو تشربون دمي لم يرو شاربكم *** ولا دماءكم جمعاً ترويني الله يعلمني والله يعلمكم *** والله يجزيكم عني ويجزيني قد كنت أوتيكم نصحي وأمنحكم *** ودي على مثبتٍ في الصدر مكنون لا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ *** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني ومن رواية أبي عكرمة: فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي *** فإن ذلك مما ليس يشجيني ولا يرى في غير الصبر منقصةٌ *** وما سواه فإن الله يكفيني لولا أياصر قربى لست تحفظه *** ورهبة الله فيمن لا يعاديني إذن بريتك برياً لا انجبار له *** إني رأيتك لا تنفك تبريني إن الذي يقبض الدنيا ويبسطه *** إن كان أغناك عني سوف يغنيني يا عمرو لو لنت لي ألفيتني بشر *** سمحاً كريماً أجازي من يجازيني والله لو كرهت كفي مصاحبتي *** لقلت إذ كرهت قربي لها بيني وقوله: لي ابن عم ، علم من هذا، أنهما اثنان. فقوله مختلفان خبر مبتدأ مضمر، أي: نحن. وقوله: من خلق ، أي: من تخالق. وكان تامة، أي: ثبت، ومن بيانٌ لما. ومطلع القصيدة على رواية أبي عكرمة والقالي: يا من لقلبٍ شديد الهم محزون *** أمسى تذكر ريا أم هارون أمسى تذكرها من بعدما شحطت *** والدهر ذو غلظةٍ حيناً وذو لين فإن يكن حبها أمسى لنا شجن *** فأصبح الوأي منها لا يواتيني فقد غنينا وشمل الدهر يجمعن *** أطيع ريا وريا لا تعاصيني ترمي الوشاة فلا تخطي مقاتلهم *** بصادقٍ من صفاء الود مكنون ولي ابن عم على ما كان من خلقٍ ***............ إلى آخره والشجن: الحزن. والوأي: الوعد. وغنينا: أقمنا. وقوله: أزرى بنا إلخ، قال ابن الأنباري: يقال أزرى به، إذا قصر، وزرى عليه: إذا عابه. وقوله: شالت نعامتنا ، أي: تفرق أمرنا واختلف. يقال عند اختلاف القوم: شالت نعامتهم، وزف رألهم. والرأل: فرخ النعام. وقيل يقال شالت نعامتهم، إذا جلوا عن الموضع. والمعنى: تنافرنا فصلات لا أطمئن إليه، ولا يطمئن إلي، ويقال ألقوا عصاهم، إذا سكنوا واطمأنوا. انتهى. وقال الزمخشري في المستقصى: شالت نعامتهم، أي: تفرقوا وذهبوا. لأن النعامة موصوفةٌ بالخفة وسرعة الذهاب والهرب. ويقال أيضاً: خفت نعامتهم، وزف رألهم. وقيل: النعامة: جماعة القوم. وأنشد البيت مع أبيات أخر. وقوله: يا عمرو إلا تدع شتمي إلخ، قال ابن الأنباري: قال الأصمعي: العرب تقول: العطش في الرأس. وأنشد قول الراجز: الرجز قد علمت أني مروي هامه *** ومذهب الغليل من أوامها إذا جعلت الدلو في خطامها الغليل: شدة العطش. والأوام: حر تجده في أجوافها. وأنشد أيضاً: الطويل ستعلم إن متنا صدًى أينا الصدي صدًى، أي: عطشاً. والمعنى: إن لا تدع شتمي اضربك على هامتك حيث تعطش. ويقال: إن الرجل إذا قتل فلم يدرك بثأره، خرجت هامةٌ من قبره، فلا تزال تصيح: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله. وأنشد في ذلك: الوافر فإن تك هامةٌ بهراة تزقو *** فقد أزقيت بالمروين هاما انتهى. قال الشريف الرضي في أماليه بعد نقل هذا: وهذا باطلٌ لا أصل له. ويجوز أن يعنيه ذو الإصبع على مذاهب العرب. وقوله: لاه ابن عمك إلخ أصله: لله ابن عمك، فحذف لام الجر مع لام التعريف وبقي عمله شذوذاً، وهو خبر مقدم، وابن عمك: مبتدأ مؤخر، واللام المحذوفة للتعجب. ونقل الشريف المرتضى عن ابن دريد، أنه قال: أقسم وأراد: لله ابن عمك، فتكون اللام للقسم، وجملة: لا أفضلت جوابه. وهذا غير صحيح، لأنه يبقى قوله ابن عمك ضائعاً. وقال ابن هشام في المغني أصله لله در ابن عمك. وهذا تكلف لأنه إجحاف مستغنًى عنه يجعل اللام للتعجب، ويكون جملة: لا أفضلت إلخ، بياناً وتفسيراً لجهة التعجب من كمال صفاته، المقتضى للتعجب منها. وقال ابن الأنباري: وروى: لاه ابن عمك بالخفض، وهو قسمٌ، المعنى: رب ابن عمك بخفض رب، فيكون على هذا رب تابعاً للفظ الجلالة بالوصفية، ويكون جملة: لا أفضلت إلخ، جواب القسم، واللام المضمرة للقسم، ولاه مقسم به. وقد أورد الشارح المحقق هذا البيت في عن من حروف الجر، على أنها هنا في بابها من المجاوزة، وأفضلت مضمن لمعنى تجاوزت في الفضل. وأورده ابن هشام في المغني على أن عن فيه بمعنى على، قال: لأن المعنى المعروف: أفضلت عليه. وهذا قول ابن السكيت في إصلاح المنطق، وتبعه ابن قتيبة وغيره. قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: ذهب يعقوب بن السكيت، ومن كتابه نقل ابن قتيبة هذه الأبواب، إلى أن عن ها هنا بمعنى علي. وإنما قال ذلك لأنه جعل أفضلت من قولهم: أفضلت على الرجل، إذا أوليته فضلاً. وأفضلت هذه تتعدى بعلى، لأنها بمعنى الإنعام. ومعناه: إنك لم تنعم علي بأن شرفتني فتعتد بذلك علي. وقد يجوز أن يكون من قولهم: أعطى وأفضل، إذا زاد على الواجب. وأفل هذه أيضاً تتعدى بعلى، يقال: أفضل على كذا، أي: زاد عليه فضلةً. وقد يجوز أن يكون من قولهم: أفضل الرجل؛ إذا صار ذا فضلٍ في نفسه، فيكون معناه: ليس لك فضلٌ تنفرد به عني، وتحوزه دوني. فتكون عن هنا واقعةً موقعها غير مبدلة من على. انتهى. ومنه أخذ ما نقله ابن الملا، بقوله: قيل: ضمن أفضل معنى انفرد، فعدى بعن، لأنه إذا أفضل عليه في الحسب، أي: زاد فقد انفرد عنه بتلك الزيادة. وقيل: هي على بابها، لأنه إذا كان أفضل، وكان فوقه في الحسب فقد زاد عنه، وصار في حيز، فكأنه يقول: ما زاد قدرك عن قدري، ولا ارتفع شأنك عن شأني. انتهى. هذا وقد روى صاحب الأغاني: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ *** شيئاً............. وعليها لا يكون في البيت عن، فلا يأتي هذا البحث. وعلى تلك كان الظاهر أن يقول: عنه بضمير الغائب، لكنه التفت من الغيبة إلى التكلم. قال ابن السيد: ويعني بابن العم المذكور نفسه، فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم ولم يخرجه بلفظ الغيبة، لئلا يتوهم أنه يعني نفسه. ولو جاء بالكلام على لفظ الغيبة لكان أحسن، ولكنه أراد تأكيد البيان، ورفع الإشكال. والحسب: ما يعده الإنسان من مآثر نفسه. والديان: القيم بالأمر المجازي به، وهو فعال من الدين، وهو الجزاء. وفي القاموس: الديان: القهار، والقاضي، والحاكم، والمجازي الذي لا يضيع عملاً، بل يجزي بالخير والشر. وتخزوني بالخاء والزاي المعجمتين: مضارع خزاه خزواً بالفتح: ساسه وقهره وملكه. وأما الخزي بالكسر وهو الهوان والذل فالفعل منه كرضي. وأخزاه الله: فضحه. قال الدماميني: يحتمل الرفع والنصب في فتخزوني كما يحتملها نحو: ما تأتينا فتحدثنا، أي: ولا أنت مالكي فأنت تسوسني، وليس لك ملك فسياسة. وعلى تقدير النصب فالفتحة مقدرة كما في قوله: الطويل أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وليس بضرورة. وقد قرئ في الشواذ: إلا أن يعفون ويعفو الذي بيده عقدة النكاح ، بإسكان الواو من يعفو الذي. انتهى. وقال ابن السيد: وقوله لا أفضلت، معناه: لم تفضل. والعرب تقرن لا بالفعل الماضي، فينوب ذلك مناب لم إذا قرنت بالفعل المستقبل. فمن ذلك قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى}. معناه: لم يصدق ولم يصل. ومنه قول أبي خراش: الرجز إن تغفر اللهم تغفر جم *** وأي عبدٍ لك لا ألما ومعنى البيت: لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب، وماثلك في الشرف، فليس لك فضل عليه، فتفتخر به، ولا أنت مالك أمره، فتسوسه، وتصرفه على حكمك. وقوله: ولا تقوت علي إلخ، تقوت: تعطي القوت. والمسغبة: المجاعة. والعزاء بفتح العين المهملة وتشديد الزاي: الضيق والشدة. وقوله: إني لعمرك إلخ، الممنون: المقطوع، ومن المنة. وقوله: عف يؤوس إلخ، أي: أعف عما ليس لي، لست بذي طمع، آيس مما في أيدي غيري، فلا تتبعه نفسي. والهون، بالضم: الذل. وقوله: فما أمي براعية ، أي: لست بابن أمة. عرض به، وكان ابن أمة. وإنما خص رعية المخاض، لأنها أشد من رعية غيرها، ولا يمتهن فيها إلا من لم يبال به. وقوله: إني أبي إلخ، قال ابن جني في سر الصناعة: كسرة النون من أبيين حركة التقاء الساكنين، وهما الياء والنون، وكسرت النون على أصل التقاء الساكنين إذا التقيا. ولم تفتح، كما تفتح نون الجمع، لأن الشاعر اضطر إلى ذلك لئلا يختلف حركة حرف الروي في سائر الأبيات. وقوله: وأنتم معشر إلخ، زيدٌ: زيادة. وأجمع أمره، بألفٍ، قال تعالى: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}. وقوله: لا يخرج الكره هو فاعل يخرج، يقول: إذا أكرهت على الشيء، لم يكن عندي إلا الإباء له، لا أعطي على القسر شيئاً. والمأبية: مصدر، كالإباء.
|